في أزقة حارة الياسمينة في البلدة القديمة بنابلس تجذبك رائحة تحميص القهوة، والبهارات المنبعثة من مطحنة "بن بريك" قرب مسجد الحنبلي، حيث تقع في مبنى يتخطى عمره 400 عام وتعد من أقدم مطاحن المدينة.
مطحنة "بن بريك" أسسها الحاج عبد الفتاح بريك، ابن البلدة القديمة، عام 1936 في حي القصبة الذي يعد من أقدم أحيائها، حيث كانت تختص في تصنيع البهارات، وطحن القهوة، وبيع الأعشاب العطرية أهمها الزعتر، واليانسون، والبابونج.
400 عام
وفي عام 1990 قرر عبد الفتاح الانتقال إلى مبنى أثري في حي الياسمينة بالبلدة القديمة، الذي كان مصبنة تمتلكها عائلة الخماش ويعود تاريخ تأسيسها إلى عهد الخلافة العثمانية، وتمت المحافظة على طابعها التاريخي، وتحويل جزء منها إلى متحف.
ورث باسل بريك (61 عامًا) مهنة العطارة عن والده منذ 40 عامًا، ورغم إجراءات الاحتلال تجاه البلدة القديمة وتجارها، فإنه ما يزال صامدًا في تلك المهنة كالعديد من التجار الذين تكبدوا خسائر كبيرة اضطرتهم إلى إغلاق محالهم التجارية، والانتقال إلى خارج البلدة القديمة.
بلهجته النابلسية التي يمد فيها الحرف الأخير مع كسره، يقول بريك لـ"فلسطين": "المحل تحفة فنية تاريخية، يمتاز بالأعمدة الكبيرة، والقناطر، والعقود، وفي فصل الشتاء، وفي الصيف يعطي برودة".
ويضيف: "عند انتقالي إليه حولت غرفة فيه إلى متحف وضعت فيه مقتنياتي التاريخية والأثرية التي ورثتها عن والدي، أو التي اشتريتها من الناس منذ أكثر من 25 عام، أو ما جلبته من الأردن، وسوريا، ويعود تاريخ أقدمها إلى ما قبل 200 عام".
وينقسم المكان الذي يقصده الزوار العرب والأجانب من كل مكان إلى ثلاثة أقسام: مطحنة قهوة، ومتحف، ومحل عطارة.
مطحنة على الماء
قبل نحو 90 عاما استورد والد بريك مطحنتي البن، والبهارات من الدنمارك حيث كانت تعمل على قوة المياه.
وبحسب بريك، كانت المطاحن قديمًا توضع بالقرب من جداول المياه، أو الشلالات، حيث يتم توليد طاقة تشغل توربيناتها، وبالتالي يتم طحن البن، والبهارات، والبقوليات، والحبوب.
ويلفت إلى أنه عند دخول الكهرباء تم تحويل المطحنة لتعمل على الكهرباء، حيث تم دمج القديم بالحديث للمحافظة عليها من الاندثار.
ويشدد بريك على أن أغلب زبائنه لا يزالون يطلبون البهارات، والبقوليات، والحبوب، والقهوة التي تطحن بالمطحنة القديمة فيما يعرف بـ"الطحن البارد"، ولأنهم يفضلون النكهة القديمة التي تعودوا عليها، فهي تحتفظ بالمذاق الأصلي للمادة.
ويلفت إلى أن المطاحن القديمة رغم تطويرها فإنها تأخذ وقتًا أطول يصل إلى ساعة من أجل الطحن، بخلاف المطاحن الحديثة التي توجد لديه وتؤدي المهمة بمدة لا تتجاوز 15 دقيقة.
ويقدم بريك خلطته المميزة لزبائنه الذين يقصدونه من كل مكان في نابلس والضفة الغربية، وأشهرها البهارات السبعة التي لا تخلو منها أي طبخة يومية لسيدة البيت.
وهناك أصناف جديدة من البهارات الدخيلة على المجتمع الفلسطيني، حيث يقوم بشراء البهارات الحب ويقوم بعمل خلطتها داخل مطحنته.
وقديمًا كانت أنواع البهارات تعد على أصابع اليد، تبعا لبريك، أما اليوم توجد عشرات الأصناف من البهارات الغربية، والعربية، ومجاراة للتطور بات يبيعها لزبائنه.
أما عن الأعشاب العطرية التي يبيعها، فيذكر أن الأعشاب والبهارات نوعان: شتوية، وصيفية، شتوية كاليانسون، والبابونج، والزعتر، أما الصيفية فتتمثل بالتمر هندي، والخروب، والكركديه، لافتا إلى أن الطلب على البهارات الحارة يكثر شتاءً، بخلاف البهارات الحلوة أو الأخف حرارة التي تطلب صيفًا.
زاوية المتحف
أما زاوية المتحف في مطحنته العثمانية القديمة، فيعدد بعضًا من القطع الأثرية فيها من أوان نحاسية، وفخارية، ودلال قهوة عربية، وملابس شعبية، وأدوات تراث البادية العربية، المهباج، والزير، والمكواة التي تعمل على الفحم، والمنقل النحاسي، وبعض العلب الخشبية التي يعود عمرها لعشرات السنوات كانت تستخدم لحفظ الحلقوم، والحلويات، والصابون النابلسي على شكل التنور، والعديد من المنشورات السياحية باللغة الإنجليزية لتعريف الزائر بنابلس وتاريخها وأهم معالمها، وتعمقنا وتجذرنا في هذه الأرض.
وفكرة تخصيص جزء من المطحنة كمتحف تعود للابن باسل، حيث أراد أن يتعرف زائرو البلدة القديمة من غير الفلسطينيين إلى تراث نابلس وبلدتها القديمة، وتبيان مدى تمسك الفلسطينيين بتراثهم، وتبيان تاريخ تجذرهم في هذه الأرض.
ويختم حديثه: "هذه المطحنة الأثرية تعني لي الكثير، وارتباطي بها عميق، وأشعر براحة نفسية وسعادة كبيرة، وأقضي فيها وقتا طويلا، إذ أقصدها الساعة 7 صباحًا حتى السابعة مساءً".